الأحد، 31 أكتوبر 2010

الوهابية والتجسيم

الوهابية والتجسيم
من الأمور المتفق عليها عند العقلاء التشوق الى معرفة صفات الخالق، وكان هذا دأب البشرية منذ نشأتها، ففي الوقت الذي يتبع فيه الناس ما جاءت به الانبياء كانت معرفتهم بالله معرفة حقيقية، أما اذا انقطع الوحي واعتمد الناس على عقولهم وتشوقاتهم لمعرفة صفات الله؛ فإن الضلال مصيرهم لا محالة، فهم يجعلون لله صفات محكومة بإدراكاتهم ومعرفتهم للأشياء، إذ تصبح الأشياء التي يعرفونها بجوهرها وذاتها وصفاتها وافعالها هي المعيار الذي يقيسون به الغائب عنهم وهو الله تعالى.
وقد عرف المسلمون مناهج متعددة في التعامل مع الآيات والأحاديث التي تتناول الصفات، الا أن جوهرها كان إما التشبيه أو التنزيه، وكانت جماهير الأمة تتبع منهج التنزيه؛ لأنه الذي يليق بجلال الله تعالى ومعه الدليل من الكتاب والسنة التي لا تخالفه وكذلك العقل السليم، ومع ذلك فقد ظهرت اتجاهات منحرفة مجسمة كان آباؤها بعض الحنابلة ومن ثم ايتامهم بعد ذلك، من أمثال ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ومن تبعهم ممن لا حظ لهم ولا نصيب من العلم، فاحيوا بدعاً انحرف بها ابن تيمية عن علماء السنة الحقيقيين، من مثل تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله، وتحريم السفر لزيارة قبره عليه السلام، وهي الفتوى التي اضطرت فقهاء المذاهب الاربعة في حينه لخروج منادٍ في دمشق يقول : من كان على عقيدة ابن تيمية في هذا الأمر فهو كافر حلال الدم، وكذلك تحريمهم وتجريمهم للاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله ... الخ هذه التي سموها بدعاً وشغلوا الامة بها، لاظهارهم وكأنهم ملتزمون بالتوحيد دون سواهم من المسلمين، وكان هذا في الحقيقة تغطية على انحرافهم في منهج الصفات.
لقد دلت النصوص على أن معرفة الله غير الإيمان بوجوده؛ إذ أن الايمان بوجود الله لا ينفع ولا ينجي عند الله إذا كان خالياً من معرفته وتنزيهه عن مشابهة المخلوقات، فقد روى البخاري في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وآله:" أنا اعلمكم بالله واخشاكم له"، فالعلم المقصود هو علم بذات الله وصفاته وأفعاله، وهو في الحقيقة، العلم الذي يورث التقوى والخشية لله، وهذا موافق لقول الله عز وجل : ( إنما يخشى الله من عباده العماء) فالنبي الأكرم أشد الناس، بل والخلق جميعاً خشية لله؛ لأنه أعلمهم بالله، وجاءت كذلك نصوص الكتاب المبين تطلب العلم بالله عز وجل لقوله تعالى :( فاعلم أنه لا إله الا الله).
ولا يقال أن المسلمين آمنوا دون علم، فقد كان موقف الناس من دعوة النبي صلى اله عليه وآله وسلم :( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)، اي أنه ليس من السهل عليهم أن يتنازلوا عن دين آبائهم تقليداً لمحمد صلى الله عليه وآله، لو أنهم لم يقتنعوا عقلاً بالصفات الجديدة عن الله، وهي التي جاء بها رسول الله؛ إذ يؤكد علماء السوسيولوجيا أن تمكن العادة والعرف والمألوف من الناس يمنعهم من التغيير في الفكر والسلوك والاستجابة لمن يدعوهم للخروج على المألوف عندهم، ولو كان المخالف معه الدليل، فكيف إذا جاءهم من يدعوهم الى اتباعه بدون دليل، مما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وآله كان يدعوهم الى إله أقام الدليل القاطع على أنه لا شريك ولا شبيه له، وجماع ذلك قول الله تعالى :( ليس كمثله شيء).
وقد انقسم علماء المسلمين الى اكثرية منزهة لله جل جلاله، واقلية مشبهة ، وكان منهج الأغلبية في التعامل مع الصفات هو التأويل والتفويض وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على صحة هذا المنهج، وكان في المقابل منهج الأقلية التي صاغ فكرها ابن تيمية ثم جاء ينشر بدعته محمد بن عبد الوهاب، وقد عانى المسلمون، علماء وعوام من بدعة الوهابية وأفكارهم التي ساهمت ثورة البترودولار في نشرها، فقد هاجموا العلماء المخالفين لهم، دون الالتزام بأدب الاختلاف الذي درج عليه علماء الأمة الأثبات، وفسقوا وبدعوا كل من لم يلحق بهم، وقد ساهم احتكارهم للتدريس والخطابة في الحرمين المكي والمدني، افتتان بعض طلبة العلم بما يقولون، ظناً أن مكة والمدينة هي مهبط العلم، وكل منهما حري بذلك لولا ما فعله الوهابية من الاقتصار على نشر أفكارهم، وكان من أعظم بدعهم التجسيم، فقد جعلوا الله جسماً، وما دام جسماً فإنه لا بد ملتزم بلوازم الجسمية من الخصائص والصفات.
وفي هذه العجالة، اريد تناول الأدلة القرآنية والنبوية وأدلة العقل، التي ترد على كون الله كما تصفه الوهابية بأنه جسم.
اولاً : من القران: قول الله جل جلاله:( ليس كمثله شيء)، وأجد من المفيد ابتداء تعريف المكان باعتباره من أدق لوازم الجسمية، وقد عرف الراغب الاصفهاني المكان بقوله:" المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء"، وعرفه الفيروزأبادي صاحب القاموس بقوله:" المكان: الموضع، ج: أمكنة وأماكن"، أما كمال الدين البياضي الحنفي فعرفه بقوله:" المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم"، ولم تخرج تعريفات أهل اللغة عن مضمون ما ذكر، وقد نزل القران بلسان عربي مبين، أي ان الذين آمنوا بدعوة النبي صلى الله عليه وآله، فهموا سواء بدلالة الإشارة أو التنبيه أو الاقتضاء، أن الله ليس جسماً، لأن من لوازم الأجسام المكان، وحيث أن الله "ليس كمثله شيء" فإن المكان منتفٍ عن الله، وحيث أن من خصائص المكان الجهوية، فلا مكان خارج الجهة، فلا يشار الى الله أنه في جهة.
كذلك قول الله تعالى :" ولله المثل الأعلى" وقوله :" فلا تضربوا لله الأمثال" أي أن الله لا يوصف بما توصف به المخلوقات من المكان والجهة، فهو لا يشبه شيئاً منها، سواء في ذاته أو صفاته، وأما ابلغ الأدلة وأكثرها صراحة في الرد على من يقول بالجهة فهو قوله تعالى :" فأينما تولوا فثم وجه الله"، فلو كان في جهة لكان التوجه اليها أولى من الجهات الأخرى، فجزم القران بانتفاء الجهة في حق الله.
ثانياً : من السنة النبوية: فقد ذكر البخاري في كتاب بدء الخلق قول النبي صلى الله عليه وآله:" كان الله ولم يكن شيء غيره"، أي أن الله موجود منذ الأزل قبل خلق الزمان والمكان، فلا يحتاج الى جهة ومكان، وقد علمنا بداهة التلازم بين الجهة والمكان، فلا يجوز أن يقال أن الله في جهة.
ويمكن الاستدلال بما رواه مسلم في صحيحه من دعاء النبي صلى الله عليه وآله:" اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء،وانت الباطن فليس دونك شيء" وطبيعي أن ما لا شيء دونه ولا شيء فوقه ، لا يصح وصفه بأنه في مكان.
ومن المؤكد عند اهل العلم اجماع المسلمين الا من شذ من المجسمة، على أن الله لا يحويه مكان ولا يحل في مكان وليس على العرش بذاته، فهو موجود قبل العرش والسماء وقبل المكان، وممن ذكر الاجماع على ذلك العلامة الرازي في تفسيره حيث قال:" انعقد الاجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز"، وكذلك ذكر الآمدي الاجماع على ذلك فقال بعد ذكر اتفاق اهل العلم :" إنه تعالى ليس بمتمكن بمكان ولا متحيز بجهة"
ثالثاً: من العقل: لا شك أن النقل جاء بمجوزات العقل، حيث لا تعارض بين العقل والنقل، والعقل الصحيح ينفي وجود الله في جهة؛ إذ لو كان الله في جهة فهو محتاج اليها، فكيف يكون خالقاً للمكان ومحتاجاً اليه، وما الذي كان ينقصه قبل خلق المكان والتحيز فيه، وقد استفاض علماء الكلام في الاستدلالات العقلية على نفي الجهة عن الله.
التجسيم عند الوهابية اتباع ابن تيمية:
ذكر الامام الحافظ ابن الجوزي، وهو غير ابن الجوزية تلميذ ابن تيمية، بل عاش قبل مئة عام تقريباً من ابن تيمية، وكان على منهج التنزيه، فقال وهو يعيب على بعض العلماء في كتابه (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص 97):" ... صنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم نزلوا الى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس،فسمعوا ان الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس !!، وقالوا: يجوز أن يَمَسَّ ويُمَس، ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم: ويتنفس، ثم يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل !! وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات،فسموها تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا الى النصوص الصارفة عن الظواهر الى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا الى الغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث".
وقال العلامة ابن الأثير في حوادث سنة ثمان وخمسين وأربعمائة : ( وفيها توفي ابو يعلى الفراء الحنبلي، وهو مصنف كتاب الصفات، أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك)، وقد أثبت الحنابلة في كتبهم التجسيم الكامل كالكتاب الذي ينسب الى الامام أحمد في الرد على الجهمية، وكتاب السنة لإبنه عبد الله، والمسمى بالسنة، وقد أتى فيه على كل منكر منافٍ لعقيدة التوحيد. كذلك كتاب السنة للخلال الحنبلي، وكتاب العرش لعثمان بن أبي شيبه، وغيرهم كثير، مما يوجب التشبيه وينأى عن التنزيه لمن نزّه ذاته ووصفاته وافعاله بقوله :( ليس كمثله شيء)، ويكفي ان يصف الرازي في تفسيره لكتاب ابن خزيمة المسمى( كتاب التوحيد واثبات صفات الرب) أن يصفه بالشرك.
كل هذه الهفوات والزلات من فكر المجسمة، جاء ابن تيمية ليصوغها مذهباً له ولأتباعه الوهابية من بعده، فقال، وهذا لا يحتاج الى توثيق لأن الحنابلة والوهابية لا ينكرونها:( فالله تعالى جسم لا كالأجسام) وينكر ان في أقوال الصحابة والتابعين نفي الجسمية عن الله.
ومن أنكر الاقوال في كلام ابن القيم، تلميذ ابن تيمية، ما جاء في كتابه المسمى بـ "اجتماع الجيوش الاسلامية" المحقق من الدكتور عواد المعتق ص 109؛ إذ يقول:" ...إن الله عز وجل ينزل الى السماء الدنيا وله في كل سماء كرسي، فإذا نزل الى السماء الدنيا جلس على كرسيه ثم يقول من ذا ... فاذا كان عند الصبح ارتفع فجلس على كرسيه".
ومن العجيب ان الوهابية تقوم بطبع هذه الكتب وما فيها من منكرات وتروج لها باعتبارها العقيدة الصحيحة المنقولة عن سلف الامة، ويمارسون ارهاباً فكرياً على الأمة بوصف مخالفيهم بالشرك والجهمية والتعطيل والخروج من زمرة الفئة الناجية مما يجعل العوام يقبلونهم ويعظمونهم، مع ما هم فيه من المخالفة لفكر الامة وسلفها الحقيقي، حتى أنهم يوافقون على ما جاء في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، حيث يتنقص من قدر أبي حنيفة النعمان ويتهمه بالجهمية والكفر في اكثر من موقع.
نبرأ الى الله مما يقوله المجسمة الوهابية من الحنابلة واتباع ابن تيمية، ونقر ونؤمن بالله كما قال عن نفسه :( ليس كمثله شيء)
sarafandisaed@yahoo.com
مدونتي الخاصة: " مدونة الصرفندي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق