الثلاثاء، 26 يناير 2010

التكفير أشد من الكفر

التكفير أشد من الكفر
بقلم: أ. سعيــد الصرفنــدي
مما ابتليت به الأمة قديماً وحديثاً، آفة التكفير، والتكفير معناه: إخراج معين أو موصوف من دائرة الإسلام بعد أن ثبت له وصف الإسلام، وهذا معناه استحلال دمه وعرضه وماله، وقد بحثت مطولاً عن قول واحد ولم اجده، يكفر فيه الجيل الأول من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من المسلمين، مما يعني أن التكفير حق لله وليس لأحد من عباده.
واول من جاهر ببدعة التكفير قديماً، الخوارج الذين كفروا علياً-رضي الله عنه- بعد قبوله بالتحكيم حقناً لدماء المسلمين، وقد تصدى علي ومن معه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لهذه البدعة المنكرة، فقد أصبحت مناظرة ابن عباس المشهورة للخوارج حجة لمن جاء بعده في إبطال شرعية منهج التكفير، الذي يعتبر في حالة حسن النية، دليلاً على قلة البضاعة في العلوم الشرعية، فقد اشتهر عن المكفرين أو التكفيريين، أنهم من غير طلبة العلوم الشرعية، مما أدى الى مخالفة نصوص قطعية في ثبوتها ودلالتها، تمنع تكفير المسلم.
لا شك أن القرآن الكريم بين لنا أنه لا يجوز تكفير من أعلن الإسلام من بوابة الشهادتين فقط، لأن باقي أركان الإسلام مختلف في حكم تاركها بين الجحود والتكاسل، كما في موضوع الصلاة، فالشافعي مثلاً، لا يقول بكفر تارك الصلاة تكاسلاً مع تكفيره عند الإمام أحمد.
لقد تناول القرآن في قول الله جل جلاله:" قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " هذه المسألة بشكل لا غموض فيه، فالأعراب المقصودون هنا هم الذين دخلوا الاسلام ولما يدخلوا الإيمان، ومعلوم أن دائرة الاسلام أوسع من دائرة الإيمان؛ فكل من نطق بالشهادين ولم ينكر معلوماً من الذين بالضرورة، فقد دخل دائرة الاسلام، وهؤلاء الاعراب لم يكونوا مؤمنين، فلم يقبل الله زعمهم الانتقال من دائرة الاسلام الى دائرة الايمان، فقال لهم " قولوا اسلمنا" فأنتم دخلتم الاسلام بإظهار شعائر الاسلام وأركانه، وهذا التفريق معناه أننا نحكم على الناس بالاسلام ولا نحكم على الناس بالإيمان، فمن أظهر شعائر الاسلام ثبتت له أحكامه، فالمسلم إذا مات مثلاً تم تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وفق احكام الاسلام، ويقع التوارث بينه وبين اقاربه كذلك، وإذا طلب مسلمة للزواج زوجّناه، وقبلت شهادته في مجلس القضاء في القضايا التي يشترط فيها أن يكون الشاهد مسلماً...الخ الأحكام التي تثبت للمسلمين.
الا أن التعصب الذي ظهر بين المسلمين على أساس الإنتماء الفقهي والمذهبي بعد ذلك جعل كثيراً من أبناء المسلمين يغالون في التكفير، تعصباً لما يقوله علماؤهم، والتعصب كلمة أُخذت من العصبية، وهي دعوة الرجل الى نصرة عصبيته والوقوف معها على من يناوئها، ظالمة كانت أو مظلومة، وهذا التعصب يمكن أن يكون على مستوى الأفكار والمشاعر والاقوال والافعال. وقد أدى ظهور الفرق والجماعات الاسلامية الى تعميق ظاهرة التعصب، فقد ظهرت هذه الفرق في البداية لأسباب سياسية ثم تعصب كل فريق لما تبناه، ومعلوم أن الإنقسامات الأولى الى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة كانت لاسباب سياسية ثم تحولت بسبب التعصب الى خلافات عقائدية، ولا شك أن هذه الانقسامات جعلت اصحابها يؤلفون الكتب والصحاف متناولين مسائل جزئية لا تسمن ولا تغني، بل لا أشك أن الخوض في تلك المسائل الجزئية جعل الأمة تنشغل عن غايتها الأساسية وهي الدعوة الى الله، ولا شك أن هذا التعصب كان أحد أهم أسباب الوضع في الحديث، فقد انبرى كل فريق من المتعصبين يخترع من الأحاديث ما يوافق مواقفه أو متبنياته العقائدية والفقهية، وهذا باب واسع لا نريد فتحه هنا، كذلك كان التعصب للأشخاص سبباً في ما آلت اليه الأمور بين اتباع المذاهب، فالفقيه الحنفي مُسعر بن كدام (ت155هـ) كان فيه غلو في تعظيمه للإمام أبي حنيفة النعمان (ت150هـ ، فكان يقول: " جعلتُ أبا حنيفة حجة بيني و بين الله تبارك و تعالى "، وقد ذكر ابن حجر في اللسان ج1 ص 458 أن الفقيه المالكي أصبع بن خليل القرطبي (ت272هـ) ، كان شديد التعصب للمذهب المالكي حتى أنه اختلق حديثا في ترك رفع اليدين في الركوع و الرفع منه ، فكشف الناس أمره.
لقد أدى التعصب الى التكفير فظهر من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كما نقل ابن كثير ، ونقل الذهبي في ميزان الاعتدال ج5 ص: 302 عن العالم الشيعي عمرو بن ثابت الكوفي (ت 172هـ )كان يسب السلف ـ و يقول:" كفر الناس بعد رسول الله إلا أربعة "
كذلك ظهر من أهل السنة من يكفر الشيعة فقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك ج1 ص:86 عن الامام مالك بن أنس قوله :" أهل الأهواء كلهم كفار ، و أسوأهم الروافض"، كذلك ما ذكره الحافظ عبد الرزاق الصنعاني (ت211هـ ) قال : الرافضي عندي كافر . و ما ينسب الى الإمام محمد بن إدريس الشافعي(ت 204هـ) ، قال بكفر الروافض الذين يبغضون الصحابة موافقا في ذلك ما ذهب إليه مالك بن أنس " انظر: الذهبي: السير ، ج 14 ص: 178 . و ميزان الاعتدال ، ج 3 ص: 38 ، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومع أن تكفير المخالفين في المذهب مقبولاً عند المتعصبين ، الا أنه لم يسلم من التكفير أيضاً الموافقين في المذهب، ومنه ما ذكره الحافظ أبو نصر السجزي الحنفي(ت 444هـ) من أن أبا الحسن الأشعري و أصحابه جعلوا عوام المسلمين –الذين لا يعرفون الله بالأدلة العقلية- "ليسوا مؤمنين في الحقيقة ،و إن جرت عليهم أحكام الشريعة"، و كذلك ما رواه المؤرخ عبد الرحمن بن الجوزي(ت597هـ) ، من أن المتكلم أبا ذر الهروي الأشعري (ت قرن: 5هـ) كان يعتقد كفر المحدث ابن بطة العكبري الحنبلي" أنظر: ابن الجوزي: المنتظم ، ج 7 ص: 114 .
كذلك إذ أقدم فقيه أشعري من المدرسة النظامية ، على تكفير الحنابلة سنة 470 هجرية ، فأدى ذلك إلى وقوع فتنة دامية بين الطرفين انظر: االجوزي: المنتظم ، ج 8 ص: 312،313 . و ابن كثير: البداية ، ج 12 ص: 117، وذكر امثال ذلك يطول وهو بحاجة الى كتاب كامل وليس الى مقال قصير كهذا.
خلاصة الأمر أن التكفير سواء للمؤتلف او المختلف في المذهب هو نتيجة طبيعية للتعصب بسبب البعد عن العلم الشرعي، وهو أمر مذموم شرعاً؛ إذ التكفير له شروطه وموانعه ولا يستطيع ذلك الا أهل العلم المحققين، أما التكفير بالأهواء والميول فهو أمر عظيم لا يجوز لمسلم أن يفعله، فالتكفير فعلاً أشد من الكفر؛ لأن فيه استباحة دم المكَفَرِ وعرضه وماله، ولا يخفى على عاقل ما يترتب على ذلك في اي مجتمع مسلم، وخاصة اذا تصدى للتكفير أغرار كل بضاعتهم كلمات سمعوها او صفحات قرأوها ففهمت على غير مرادها ومعناها.
اللهم إني أبرأ اليك ممن يكفر مسلماً فيستحل دمه وماله وعرضه
sarafandisaed@yahoo.com
ssarafandi@hotmail.com
مدونة الصرفندي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق